ازياء وموضة | الأناقة الصامتة تواجه الجرأة الصاخبة من سيفوز بالمواجهة؟

هنالك صيحة اجتاحت العام الماضي بموجة ضخمة لم تُسيطر فقط على ما هو رائج في مواقع ومنصات التواصل الاجتماعي، بل غيّرت اتجاه السوق وسلوك المستهلكين. ومن المفارقات أن هذه الصيحة ليست موضة عصرية، في الواقع تركز جهود هذه الصيحة على إلغاء ما هو عصري من خلال التخلص من أي شكل من أشكال التصاميم الفريدة التي من شأنها جعل الأزياء معروفة. هي ليست مبهرجة أو مزدحمة المنظر أو تصنف تحت توجه الـAVANT-GARDE، هي صيحة لا ترفع صوتها، بل تهمس وتنضح بالعناصر الجمالية والرقي من خلال التفاصيل الدقيقة التي تظهر بجمالية تميل إلى البساطة والحد الأدنى.

جوهر الفخامة الصامتة ودلالاتها

الفخامة الصامتة والمعروفة أيضا باسم الثروة الخفية، هو مأخذ البساطة في الموضة، يركز على الأناقة الخالدة والرقي وواقعية انعكاس أسلوب الفرد في حياته اليومية واحتياجاته من الموضة، حيث تحمل مستوى متكافئا من التفاصيل المميزة والمساحة الخالية التي تعادلها لتملأها التعابير الذاتية وهيمنة الشخصية المتفردة.

هي توجه عكسي للشعارات والعلامات التجارية الواضحة. تميزها الألوان المحايدة، والخياطة الاحترافية، والخطوط النظيفة التي تدل على الحرفة الجبارة، إنها باختصار الأساسيات والإكسسوارات المصممة جيدا لتبدو كأنها إرث عائلي يجري تناقله عبر الأجيال، إنها ثورة الأسلوب البسيط مع لمسة صاخبة في خفوتها من المال القديم.

نعم، إنها الفخامة الصامتة. تُعرَف صناعة الأزياء بدورانها في حلقة زمنية تُحدد وقفاتها بأزياء الوقت، فالموضة هي مرآة العصر وأداة فعالة لتمييز ومعرفة الحِقب الزمنية واقتصادها وتوجهاتها والسلوك البشري والطبقات الاجتماعية وغيرها الكثير.

إلى جانب دوران الموضة شبه الانتظامي لحد ما، كان هنالك بضعة دوافـــع حـفـــزت الصـنــاعة والســـوق على الـتـــوجـــــه إلى كــــنــف الفـخـــامـــة الصـامـتـــة ومـن أبـــرزهــا تـشـبـع مشهد الأزياء والموضة بالــشعارات المكـتـــظـــة، وهـــوس الـتعـــــريف والمـجـــاهــــرة باقـتــنــــــاء العـــــلامات التـجـــاريــــة الذي أخـــذ الشـــكل الظــاهــــري بالمبـــالغة في ارتداء أزياء وحمل إكسسوارات تتمحور تصاميمها حول ثقل الاسم والعلامة التي تحملها، مترجمةً في توسط الشعار وتضخمه على القطعة الملبسية، وفي حالات أخرى تكراره كما يكون تكرار النمط ليصنع القماش.

ولكن ما سبب ظهور الفخامة الصامتة وحركة الرفاهية الهادئة؟

انتشار ثقافة التباهي في أول عقدين من القرن 21، إذ لم يكن من محض الصدفة أن المنتجات الأكثر مبيعا للدور الفاخرة العظمى، كانت تحتوي على الشعارات البارزة والعلامات التجارية الصاخبة.

كانت هذه الشعارات والعلامات التجارية رمزا للتعريف بحـــالة الـدخـــول لطبــقـــة اجـتــماعيــــــة مختلفة وأيقونية الأموال الجديدة، التي اكتُسبت في طور ثوران حركة مواقع ومنصات التواصل الاجتماعي، والفرص التي ولدت من تفاعلها وانتشار ثقافة المؤثرين فيها، وتوثيق أساليب الحياة من خلالها وصناعة المحتوى. وتُرجم تدفق الأموال الجديدة جنبا إلى جنب مع رغبة الناس والحاجة إلى التباهي بها باستعمال العلامات التجارية بـشــكل بــارز من خــــلال هــــوس الــشـــعارات والمــبـــالــغــــــة، وهكذا أصبحت الـ LOGO-MANIA في طليعة الموضة، وهو ما أدى إلى موجة هائلة من الشعارات التي تشوش المشهد، وتشذ عن طريق الإبداع الذي هو مفهوم وعامل له قيمة أكبر من اسم علامة مطبوع بشكل واضــح على قــمــيـــص أبـيـــض، أو حــــرف، أو رمــــز، أو شــــعـــــار يتكرر ليشكل نمطا على قطعة قماش.

كان من الواضح أن ردة الفعل تجاه تشبع الشعارات والأزياء الصاخبة قد آتى ثماره في عام 2023، فكانت بقوة هائلة تدفع الصناعة إلى الاتجاه المُعاكس، لا يُمكن مقاومة الفخامة الصاخبة إلا بهدوء الرفاهية المستمدة من النِد لثقافة التباهي والاستعراض التي تتماشى مع سلوك الأموال الجديدة إلى الوجه الآخر لعُملة الفخامة الصامتة، وهي الأموال القديمة.

“الأموال القديمة” تشير إلى ثروة الأجيال المتوارثة من خلال الرقي والبساطة. إنه أسلوب متبنى من عائلات وطبقات اجتماعية امتلكت ثروة لأجيال وطوّرت ذوقا راقيا وبسيطا لا يهدف إلى التباهي أو التبختر أو الاستعراض بشعارات مبهرجة، بل يركز بدلا من ذلك على الجوهر، وهو الشخصية والكاريزما المُعززة براحة فائقة وملائمة القوام وما يحسنه، والجودة والحرفية التي تظهر في الأقمشة الفاخرة والقصات الدقيقة، والألوان التي تصرف الانتباه عن الملابس، وتوجهها مرة أخرى إلى الشخص الذي يسيطر على المساحة التي يدخلها من خلال الثقة المطلقة التي تشع من الداخل. قد لا تعرف العلامة التجارية التي يرتدونها لغياب العلامة المرئية، ولكن ستشعر بالتأكيد أنك في حضرة الرفاهية الحقيقية.

إن الفخامة الصامتة متجذرة في التقاليد والتراث، وتتخذ الملابس مفهوما خاصا بها، وهو نهج “إذا كنت تعرف، فستعرف” كعلامة فارقة وشعار ناعم وحسي، نظام تصنيفي دقيق وغامض يُمكن فقط الأفراد الذين يعرفون العلامات التجارية المتخصصة بهذا التوجه بشكل كامل من وجهة نظر المستهلك الدائم التعرف إليها، وهو ما يدل على التصنيف المجتمعي.

من الـــعـــــلامــــــات الــتـي تـــــنــطـبـــق علــيــها منـهـجـيـــة الـفــخــامة الـصـامـتـــة “لـــورو بــيــانــــا” و”بــرونـيـلو كوتشينيلي”، و”هيرمس”، و”ذا رو”.

القيمة الفنية والمساحة الإبداعية لنقيض الفخامة الصامتة.. حركة الحد الأقصى أو الـ MAXIMALISM

في الكف المناظر الذي يحمل الفخامة الصامتة هنالك توجه آخر تتجه إليه الموضة عندما لا تكون منحصرة على الأساسيات والألوان الحيادية، وعندما لا يكون تركيزها الأول والأساسي هو الجودة الفاخرة ومكانتها كمعيار للتمييز، بل تأخد رتبتها بجانب الرؤية الفنية كنقطة ارتكاز رئيسة.

بعكس البساطة التي تنص عليها حركة الحد الأدنى التي تحتضن توجه الفخامة الصامتة، تتواجد مبالغة الحد الأقصى أو ما يعرف باللغة الإنجليزية بالـ”ماكسيماليزم”.

في هذا المقال، أُريد أن أُقصي توجه الشعارات والعلامات التجارية البارزة “اللوغو مانيا” من حركة الحد الأقصى واقتصارها بحدود واسعة على كل ما هو تفسير إبداعي في عالم الأزياء وأقسامه ومجموعاته من الملابس الجاهزة إلى الأزياء الراقية. الموضة بمستوى الحد الأقصى هي أسلوب يعبر عن البذخ والمبالغة. تتميز بالألوان الزاهية والأنماط الجريئة والإكسسوارات كبيرة الحجم والتفاصيل المـــعــقـــدة والتــصــمــيـــمــــات الجـــــذابــــة. طبــيــعــيـــــا، على عــــكس عــــلامــــات الـحــــد الأدنى التي تــفــــــــــــــضــــل البساطة والاتـــجـــاه الـعــمـــلي والألــــــوان الــمـــحــــــــايـــــدة والخـــــطــــــوط الــواضــحــــــة، تــمـــتــــد اتــجـــاهـــــات الموضة المتــطـــرفـــــة إلى الكـــثـــيــــر مـن عــصـــــور الـــمـــوضــــــة، بدءا من سحر الديسكو في السبعينيات والصور الظلية ذات الأكتاف الضخمة في الثمانينيات إلى البساطة الدراماتيــــكية في التـــسعيــــنـــــــيات، وحتى بـــدايـــة الألفية بطبقاتها المتعددة وإكسسواراتها العشوائية.

هنالك قيمة مفقودة في توجه الفخامة الصامتة تـعوضـــنا فيه بـــكـــثرة موضـــةـ الــحـــد الأقــصــــى، وهي القيـــــمة الإبداعية وحرية التعبيـــــر وهويـــــة الـعلامة الفنية الواضحة في التفاصيل والتصاميم الفعلية والألوان المقترنة بتاريخ العلامة أو الدار.

لربما كان العملاق الإيطالي في عالم الموضة الفاخرة “غوتشي” خير مثال لخط سير الموضة في عام 2023 حينما انفصل المدير الإبداعي السابق “ألساندرو ميكيلي” عن العلامة التجارية في أواخر عام 2022، ليحل محله في القيادة المدير الإبداعي الحالي “ساباتو دي سارنو” الذي قدم مجموعة اتسمت بالبساطة والأناقة الكلاسيكية بدت غير متكلفة، ولكنها أنيقة وشبابية في آن واحد، يمكننا القول إنها في إطار استراتيجية الحد الأدنى.

لا يزال علينا رؤية المزيد من “دي سارنو” لتحديد توجه “غوتشي” الجديد، ولكننا نعرف بالتأكيد التوجه الفني الذي كانت تسير فيه العلامة في عهد “ميكلي”، وهو الحد الأقصى.

حيــث أعـــاد “ميكلي” اختراع الـــعلامة الإيطالية التراثـيـــة، ونـقــلـهــا مـن عـلامــــة أزيــــاء فــاخــــرة إلى عــالــــــم موازٍ من الخيال والمجموعات غير المتوقعة.

اشتهر المصمم المُربح بإضفاء البريق والسحر والغرابــة والتعبـــير علـى “غوتــشي”، وأعـطــى حـيــــاة جديدة للعلامة الإيطالية وصناعة الأزياء ككل، فكان عالـــمــه الـســحـــري رومــانـســيـــا من نوع جديــــد استُكـــشــــف مـن خـــلال الأزيــــاء، حيـــث ابـتـــكـــر عــالــــما متقن الصنع يضع الاستدامة والشمولية في طليعة روح العلامة التجارية.

المبالغة أو “الماكسماليزم” من وجهة نظري هي النظر إلى مساحة الأزياء وصرح الموضة ومجموعات العلامة كلوحة فارغة يرسم عليها المصمم والمدير الإبداعي خطوط إلهامه، ومنحنيات لمسته الإبداعية على هيئة أزياء ملبوسة، فتنتج صور ظلية غريبة، ما بين الدراماتيكية والكلاسيكية، وتتخذ الألوان البراقة محلها في نمط من النقوش أو الزهور، أو تتربع على عرش الرئاسة كلون أحادي يجذب الانتباه.

تعريفات وتفسيرات ما يمكن أن ينحدر تحت اتجاه أو تصنيف “الماكسماليزم” لا حدود لها، ولكنها تسمح بحرية التعبير للمصمم، وتحمل قيمة فنية واضحة وبصرية بعكس الفخامة الصامتة التي تركز على جمالية التنفيذ وجودة المواد وفخامة التصميم.

من الــــعــــلامـــــــات اللامــعــــة التي لا تـخــجــل من الـخـــوض في مـضــمــــار الـمــبـــالـــغـــــة “سكابريلي” و”بالمان”، و”فرساتشي” و”لويفي”.

في أجيج النزاع القائم، من له الكفة الراجحة؟

النزاع بين الندين قائم، لأن كلا منهما يتموضع في نهاية مسطرة ونطاق الموضة، هناك قوة سحب، كما أن هنالك قوة دفع، نستنج أنهما خطان متوازيان يخدمان فئات مختلفة قد تتقاطع الخطوط تغير التوجهات والصيحات أو نضوج الأسلوب الشخصي أو تغييره.

ولكن وجود التوجهين المتضادين من أساسيات صناعة الأزياء، ولا يمكن أن نُحدد أن الفخامة صامتة لو لم تكن المبالغة صاخبة، كما لا يمكننا معرفة حجم ضوضاء التطرف لولا هدوء الفخامة الرقيقة.

هذا التنوع في القيم الفنية وتوجهات الأزياء الذي ينعكس في خدمة السوق المتشعب وفئات المستهلكين هو ما يجعل عالم الموضة عالما شائقا، مفعما بالغموض ومدفوعا بالإثارة والجمال، والدراماتيكية والفخامة، والتطرف والبساطة. ما بين جنون الإبداع وواقعية الرؤية في الفخامة الصامتة.